JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
ريشة فنان

الفن الجيني

 




الفن الجيني:

يمثل الفن الجيني (Genetic Art) أحد الاتجاهات الحديثة في الفن المعاصر الذي يجمع بين الإبداع الجمالي والبحث العلمي في علوم الوراثة والذكاء الاصطناعي. إنه فن يتجاوز مفهوم العمل الفني الثابت، ليقدّم شكلًا من أشكال “الكائن الحي الرقمي” الذي يتطور عبر الزمن من خلال آليات تحاكي الطبيعة. ومن خلال توظيف مبادئ التطور البيولوجي والطفرات الجينية داخل منظومات رقمية، يتحول الفنان من صانع للعمل إلى مصمم لقوانين تكوينه، مما يجعل الفن الجيني واحدًا من أكثر الممارسات الفكرية والفلسفية تعقيدًا في ميدان الفنون البصرية المعاصرة.

تعريف الفن الجيني وأصوله المفاهيمية:

يُعرف الفن الجيني بأنه عملية فنية تستخدم الخوارزميات التطورية والبيانات الجينية لإنتاج أعمال فنية متغيرة، قد تكون رقمية أو بيولوجية أو مزيجًا منهما. يقوم الفنان بوضع “شيفرة وراثية” رقمية، تشبه الجينوم الحي، تتحكم في كيفية توليد الأشكال والألوان والعلاقات داخل العمل. ومع مرور الزمن، تحدث “طفرات” أو تعديلات في هذه الشيفرة، ما يؤدي إلى ظهور نسخ جديدة من العمل بخصائص مختلفة، وكأنها سلالات فنية تنحدر من أصل واحد.

تاريخ الفن الجيني:

يعود الجذر النظري لهذا الاتجاه إلى مفاهيم التطور والانتقاء الطبيعي التي صاغها تشارلز داروين في القرن التاسع عشر، لكنه وُظف فنيًا في ضوء التقنيات الرقمية المعاصرة. بدأ ظهوره الفعلي في تسعينيات القرن العشرين مع تطور الذكاء الاصطناعي والبرمجة الوراثية، حين سعى الفنانون إلى “محاكاة الخلق الطبيعي” باستخدام الكود الرقمي بدلًا من الفرشاة أو الإزميل. وبذلك، أصبح الفن الجيني نوعًا من البيئة الإبداعية التلقائية، التي تنتج الجمال دون تدخل مباشر من الإنسان.

آليات العمل في الفن الجيني:

تعتمد الممارسة الجينية على الخوارزميات التطورية (Evolutionary Algorithms)، وهي أنظمة حسابية تحاكي طريقة عمل الجينات في الكائنات الحية. تبدأ العملية عادة بمجموعة أولية من “الأعمال الجينية” أو النماذج البدائية، ثم يتم تطبيق مفاهيم مثل “الانتقاء” و“التكاثر” والتحور”، بحيث تُختار أفضل التصاميم بناءً على معايير جمالية يحددها الفنان أو النظام ذاته. وهكذا تتولد أجيال جديدة من الأعمال، تتطور تدريجيًا عبر الزمن حتى تصل إلى مرحلة من “النضج الفني”.

يمكن أيضًا استخدام البيانات البيولوجية الحقيقية، مثل تسلسلات DNA، كمصدر بصري لتوليد الأنماط والأشكال. فبعض الفنانين يقومون بترجمة الجينات البشرية أو النباتية إلى رموز لونية وخطوط هندسية، مما يجعل العمل الفني يحمل هوية “حيوية” تتجاوز الجمال التقليدي إلى الجمال العلمي.

الدلالات الفلسفية والجمالية:

كان الفنان في العصور السابقة هو المركز المطلق للعمل، يأتي هذا الفن ليعيد توزيع الأدوار بين الإنسان والآلة والطبيعة. فالفنان لم يعد منفذًا يدويًا، بل أصبح “مهندسًا للجماليات”، يصمم النظام ويتركه يتطور ذاتيًا. هذه الفكرة تمثل انتقالًا من “الفنان الخالق” إلى “الفنان المبرمج”، ومن “العمل النهائي” إلى “العمل المستمر”.

كما يتحدى هذا الفن مفهوم “الأصالة” في الفن، إذ إن كل نسخة من العمل قد تكون مختلفة عن الأخرى، ولكنها جميعًا تنتمي إلى الأصل ذاته. وهذا يقود إلى رؤية جديدة للفن بوصفه عملية حيوية مفتوحة، لا يمكن تجميدها أو امتلاكها بسهولة، مما يضع المتلقي في دور المراقب للتطور لا لمشاهدة منتج ثابت.

من جهة أخرى، يعكس الفن الجيني موقفًا فلسفيًا من الإنسان والطبيعة؛ فهو يؤكد أن الجمال ليس حكرًا على الوعي البشري، بل يمكن أن ينشأ من تفاعلات غير بشرية، سواء كانت خوارزمية أو بيولوجية. إنه دعوة إلى إعادة التفكير في حدود الذكاء والإبداع، وإلى تبني رؤية “ما بعد إنسانية” (Post-Humanism) ترى الفن كاستمرار للعمليات الطبيعية داخل سياق رقمي.

الأبعاد الأخلاقية والتقنية:

أثار الفن الجيني نقاشات أخلاقية واسعة حول حدود التلاعب بالكائنات الحية والبيانات الوراثية، خصوصًا في الحالات التي تُستخدم فيها مواد بيولوجية حقيقية. فالسؤال هنا لا يقتصر على “هل يمكن فعل ذلك؟” بل “هل ينبغي فعل ذلك؟”. فدمج الحياة بالفن يثير قضايا تتعلق بمسؤولية الفنان تجاه البيئة والكائنات المستخدمة، وبما إذا كان العمل الفني يمكن أن يتحول إلى كائن حي مستقل.

من الناحية التقنية، يتطلب الفن الجيني معرفة عميقة في البرمجة، والإحصاء، والذكاء الاصطناعي، مما يجعل الفنان في هذا المجال متعدد التخصصات. ولهذا السبب، يتعاون العديد من الفنانين الجينيين مع مختبرات علمية وجامعات لإنتاج مشاريع تجمع بين الفن والبيولوجيا والهندسة الوراثية.

يُعد الفن الجيني أحد أبرز مظاهر تلاقي الفن والعلم في العصر الرقمي، حيث تتجاوز اللوحة مفهوم السطح الثابت لتصبح منظومة حيّة تتطور عبر الزمن. إنه فن لا يسعى إلى تمثيل الحياة، بل إلى خلقها داخل فضاء جمالي مبرمج. ومن خلال هذا الدمج بين الخوارزمية والحيوية، يفتح الفن الجيني أفقًا جديدًا للتفكير في طبيعة الإبداع، وفي معنى أن تكون “فنانًا” في زمن تكتب فيه الجينات القصائد وتنسج الخوارزميات الألوان.

إنه فن المستقبل الذي لا يعرف النهاية، لأنه ببساطة فن يولد باستمرار.


الاسمبريد إلكترونيرسالة