تصميم الأوراق النقدية:
ولو تطلَّعنا إلى الأوراق النقدية التي يتداولها العالم اليوم، وقارنَّاها بما كانت عليه قبل قرن أو أكثر من الزمن، للاحظنا تطوراً بطيئاً يجسِّد بوضوح التطور الذي ظهر خلال هذا الزمن على صُعد الذائقة والنظرة إلى الجمال والمذاهب الفنية في التصميم عموماً، على الرغم من تقيّد حرية التصميم هنا بعوامل عديدة وشروط قاسية تهدف في معظمها إلى إعاقة التقليد حتى أقصى حد ممكن. ولكن تطور تقنيات صناعة الأوراق النقدية أزاح عن كاهل الفنانين بعض الأعباء، ووسَّع أمامهم المجال لإبداع أوراق نقدية هي ابنة عصرها فعلاً.
عندما نتطلع إلى الأوراق النقدية، فإن بصرنا يعمل كأشعة «إكس»، إذ نرى أشياء وأموراً عديدة خلف هذه الأوراق الملونة، أكثر بكثير مما هي عليه بحد ذاتها، حتى أن كثيرين يعجزون عن تذكر ما عليها من رموز وتفاصيل، على الرغم من أنهم يرونها يومياً.. ولا يحظى تصميمها الفني بانتباهنا، إلا لفترة وجيزة تقتصر على النظرة الأولى إلى الإصدارات الجديدة منها.
ولكن التمعن في هذه الأوراق النقدية وفي تبدل مظاهرها، خاصة خلال القرنين الماضيين وصولاً إلى يومنا هذا، يؤكد لنا أننا أمام فن يتطور باستمرار لاعتبارات خاصة به تختلف كثيراً عن تلك التي تقف وراء تطور باقي الفنون.
تاريخ تصميم الأوراق النقدية:
ما بين ابتكارها في الصين خلال القرن السابع الميلادي، ووصولها إلى أوروبا بعد ذلك بعشرة قرون، لم يتطور تصميم الأوراق النقدية بأي شكل ملحوظ. لا بل يمكن القول إن أقدم ورقة صينية وصلت إلينا من القرن السابع كانت فنياً «أجمل» من أول ورقة نقدية أوروبية، التي أصدرها بنك استوكهولم عام 1666م. إذ حوت الأولى إضافة إلى النص المعبِّر عن القيمة رسماً حفرياً لأناس في السوق، في حين أن الثانية لم تحمل غير نص من خمسة أسطر ونصف السطر وتحته ثمانية تواقيع تؤكد أصليتها.
ولأن الأوراق النقدية ظلت حتى أواخر القرن الثامن عشر أقرب إلى «تعهدات بالدفع» إضافة إلى المصارف، كبار التجار والصاغة ويعطونها لمن أودع عندهم ما يساوي قيمتها الاسمية من النقود الذهبية أو الفضية، فإن كميات المتداول منها كانت محدودة، وصناعتها لم تكن بحاجة إلى تعقيدات كثيرة على مستوى التصميم، خاصة وأنه يسهل التأكد من أصليتها من خلال التواقيع أو الأرقام التي تحملها.
في بداية القرن التاسع عشر، كان استخدام الأوراق النقدية بدلاً من النقد المعدني قد أثبت جدواه وفاعليته الاقتصادية في أنحاء كثيرة من العالم، وخاصة العالم الصناعي. فشاع استعمالها أينما كان، وتعددت الجهات التي تصدرها. ولكن في الوقت نفسه، كانت الطباعة تتطور وتنتشر في كل مكان. ففي العام 1836م مثلاً، كان في الولايات المتحدة 1600 جهة تُصدر أوراقاً نقدية من فئات مختلفة للدولار الأمريكي الواحد. وبلغ عدد أشكال الأوراق النقدية المختلفة على صعيد اللون أو التصميم للدولار الورقي في ذلك العام نحو 30 ألف شكل مختلف.
شروط تصميم الاوراق النقدية:
من المرجَّح أن الشروط والقيود التي يخضع لها تصميم الأوراق النقدية هي الأقسى والأكثر تعقيداً من بين كل الفنون التطبيقية. ونذكر من أهمها:
-إن الموضوع الذي يجب رسمه على الورقة النقدية مختار ومفروض من قِبل الحكومة أو من يمثلها، وليس الفنان. وغالباً ما يتألف هذا الموضوع من عدة رموز وطنية (مثل الشخصيات أو المصادر الاقتصادية أو البيئة الطبيعية أو المعالم الجغرافية…)، يجب جمعها إلى بعضها في وحدة فنية متكاملة.
-على الرسم أن يلتزم بأكبر قدر ممكن من الشبه مع الأصل، وتسهل قراءته فوراً من أبسط الناس.
-على الأوراق النقدية ذوات القيم الاسمية المختلفة، أن تختلف شكلاً عن بعضها حتى أكبر قدر ممكن، تلافياً لحصول أخطاء من قبل العامة خلال تداولها.
-على الرسم أن يكون دقيقاً في تفاصيله بحيث يصعب استنساخه وتقليده. وهو ما أبقى تصميم العملة الورقية بمذهبه الجمالي، بعيداً عن المذاهب الجمالية التي كانت تتجلى في تطور الفنون الحديثة مثل الرسم والعمارة والنحت وغير ذلك.
الزخرفة في تصميم الأوراق النقدية:لقد ظهر التجريد الهندسي في الرسم عام 1914م، وفي الهندسة المعمارية بعد ذلك بعقد واحد، ولكننا لو تطلعنا إلى الأوراق النقدية العائدة إلى تلك الحقبة، لوجدناها محشوة بكميات هائلة من الزخارف المستوحاة من العمارة الباروكية التي كانت سائدة قبل قرنين من الزمن، والمؤلفة من خطوط منحنية ومنحنيات مضادة.
ببساطة، إن الخط المنحني هو أصعب على التقليد من الخط المستقيم. وكلما كثرت الرسوم المعقَّدة، زاد احتمال وقوع المزوِّر في خطأ يكشف فعلته. فحتى أربعة أو خمسة عقود خلت، كان اكتشاف النقد المزوَّر يتم بالدرجة الأولى من ملاحظة اختلاف بسيط في الرسم، أو في التصميم بشكل عام بما فيه غياب الرسم المائي، الذي كان في النصف الأول من القرن العشرين العقدة الأكبر في وجه المزوِّرين.
فكان يوجد الكثير من الرسوم الباروكية المعقَّدة حتى أقصى حد ممكن، كان متوسط مقاييس الأوراق النقدية في النصف الأول من القرن العشرين نحو ضعفي ما آلت إليه اليوم. وغالباً، ما كانت هذه الصفائح الورقية الكبيرة مغطاة بأكملها بالرسوم والزخارف، ما عدا بقعة بيضاء واحدة متروكة ليظهر الرسم الضوئي عليها من خلال تعريضها لضوء خلفها.
كما سمح تطور صناعة الأحبار المتلونة حرارياً، بإضفاء مزيد من الألوان الزاهية على التصاميم، وتلوين بعض العناصر الغرافيكية بألوان عديدة متدرجة بدقة من لون إلى آخر، ويستحيل على المزوِّر الإتيان بمثله تماماً. حتى أن الدولار الأمريكي الذي كان يُعرف باسم «العملة الخضراء»، لم يعد كذلك بعدما دخلت عليه ألوان زاهية جديدة مثل الوردي والأصفر والبنفسجي.
دور التقنية في تصميم الأوراق النقدية:يستحيل في هذا المجال تعداد كل ما طرأ من تحسينات وتعقيدات على صناعة العملة الورقية خلال العقود الأخيرة. فقد شملت كل شيء تقريباً، بدءاً من نوعية الورق مروراً بالأحبار المتلونَّة حرارياً، وصولاً إلى الخيوط الممغنطة والرسوم المجسَّمة، التي نراها ونلمسها كل يوم من دون أن يستوقفنا حضورها، مثل الشريط الفضي اللون الموجود على الفئات الكبيرة من الريال السعودي والمزدان بشعار المملكة ورقم الفئة وتتقزح ألوانه بتحريك الورقة النقدية. غير أن أهم تطور طرأ على تقنيات صناعة العملة الورقية هو في ظهور «الطباعة فائقة الصغر» (ميكرو برنتنغ ) التي تم تطويرها عام 1990م، وتسمح بطباعة رسوم وتفاصيل غير مرئية بالعين المجرَّدة.