JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
ريشة فنان

مفهوم الفينومينولوجيا في الفن

 




الفرق بين الفينومينولوجيا والفن الحديث:

الفينومينولوجيا (Phenomenology) أو الظاهراتية هي منهج فلسفي تأسس على يد إدموند هوسرل (Edmund Husserl)، ويهدف إلى دراسة الظواهر كما تظهر لنا في وعينا، بعيدًا عن أي افتراضات مسبقة. إنها تركز على "التجربة المعيشة" (Lived Experience) للعالم. ومن جانب آخر، فالفن الحديث (Modern Art) هو حركة فنية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، وكسرت القواعد الأكاديمية التقليدية، وركزت على التعبير عن الذات، والأفكار، والمشاعر بطرق جديدة. إن التقاء الفينومينولوجيا بالفن الحديث كان أمرًا حتميًا، فكلاهما يرفض النظرة التقليدية للعالم، وكلاهما يركز على التجربة الداخلية والوعي كحجر أساس (Husserl, 1970).

نظرة الفينومينولوجيا في الفن:

تُعد الفينومينولوجيا تحديًا مباشرًا للنظرة التقليدية للفن كـ"تمثيل للواقع". فبدلاً من أن تسأل "هل هذه اللوحة تشبه الواقع؟"، تسأل الفينومينولوجيا "كيف تظهر هذه اللوحة في وعي المتلقي؟". فالفنان في الفن الحديث لم يعد يسعى إلى تقليد العالم، بل إلى تقديم تجربته الشخصية للعالم. فلوحات الانطباعية (Impressionism) لم تكن تهدف إلى رسم المناظر الطبيعية كما هي، بل إلى تجسيد "الانطباع" الذي تركه المشهد في وعي الفنان. وهذا التركيز على التجربة الداخلية هو جوهر الفينومينولوجيا. إن الفن هنا لا يمثل الواقع، بل يمثل طريقة إدراكنا له (Casey, 1996).

نظرة الفنان موريس ميرلو-بونتي في الفينومينولوجيا:

يُعتبر الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو-بونتي (Maurice Merleau-Ponty) أحد أبرز من طبقوا الفينومينولوجيا على الفن. في كتابه فينومينولوجيا الإدراك (Phenomenology of Perception)، يركز ميرلو-بونتي على أهمية "الجسد" كأداة أساسية للإدراك والمعرفة. يرى أن الفن ليس عملية عقلية مجردة، بل هو عملية حسية وجودية تبدأ من الجسد. فالفنان، من خلال جسده، يتفاعل مع العالم، ويستشعر الأشكال والألوان، ثم يترجم هذه التجربة الحسية إلى عمل فني. وكذلك المتلقي، الذي يتفاعل مع العمل الفني ليس بعقله فقط، بل بجسده وعواطفه. بالنسبة لميرلو-بونتي، فإن لوحات بول سيزان (Paul Cézanne) لم تكن ترسم الأشياء، بل كانت ترسم "الخبرة الحسية" للأشياء، وهو ما جعلها أعمالًا فينومينولوجية بامتياز (Merleau-Ponty, 2002).

الزمن والوعي في الفينومينولوجيا:

تتعامل الفينومينولوجيا مع الزمن ليس كـ"خط" متصل، بل كـ"تيار" من التجارب المعيشة. والفن الحديث، بأساليبه التجريبية، قدم لنا طرقًا جديدة لتجربة الزمن. ففي التكعيبية (Cubism)، قام فنانون مثل بيكاسو بتفكيك الأشكال وإعادة تجميعها، مما جعل المشاهد يرى الشيء من عدة زوايا في لحظة واحدة، محطمًا بذلك مفهوم الزمن التقليدي. وفي فن الإنطباعية، حاول فنانون مثل مونيه (Monet) تجسيد مرور الزمن من خلال رسم نفس المنظر في أوقات مختلفة من اليوم. هذه المحاولات الفنية ليست مجرد تقنيات، بل هي محاولات فينومينولوجية لاستكشاف طبيعة الزمن كما يُعاش في وعينا (Brough, 2011).

الفن والفضاء في الفينومينولوجيا:

تُقدم الفينومينولوجيا نظرة جديدة للفضاء، ليس كإطار هندسي ثابت، بل كمساحة تُعاش وتُدرك من خلال الجسد. وقد استثمر الفن الحديث هذه الرؤية بشكل كبير. ففي أعمال النحت التجريدي، لم يعد النحاتون يهتمون بتمثيل شكل معين، بل بـ"خلق" مساحة يمكن للمتلقي التفاعل معها جسديًا. على سبيل المثال، منحوتات هنري مور (Henry Moore) لا تُنظر إليها من الخارج فقط، بل يمكن للمتلقي أن يسير حولها، ويدرك فراغها وكتلتها في سياق وجوده الخاص. وفي فن العمارة الحديثة، يتم تصميم المباني ليس كأشكال جامدة، بل كتجارب مكانية تؤثر في إدراكنا للضوء، والحجم، والزمن. الفن هنا يعيد تعريف الفضاء كجزء من تجربتنا المعيشة، وليس ككيان منفصل عنا (Merleau-Ponty, 2002).

الفن واللون في الفينومينولوجيا:

في الفن الحديث، وخاصة في حركات مثل التعبيرية التجريدية (Abstract Expressionism)، تحرر اللون من وظيفته التمثيلية. فبدلاً من أن يستخدم الفنان اللون لتمثيل شجرة أو سماء، أصبح اللون في حد ذاته هو الموضوع. هذا التحرر يتوافق تمامًا مع الفكر الفينومينولوجي الذي يرى أن الألوان ليست مجرد خصائص للأشياء، بل هي ظواهر حسية خالصة تُدرك بشكل مباشر في الوعي. فنانون مثل مارك روثكو (Mark Rothko) استخدموا مساحات كبيرة من الألوان لخلق تجربة تأملية مباشرة، دون الحاجة إلى أي تمثيل. المتلقي في هذه الحالة لا يرى "لوحة"، بل يعيش "تجربة لونية" تثير مشاعر عميقة وتتجاوز التفسير العقلي (Shapiro, 1995).

كيفية تعزز الفينومينولوجيا فهمنا للإبداع:

تمنحنا الفينومينولوجيا أدوات جديدة لفهم العملية الإبداعية نفسها. فالفنان لا يبدأ بـ"فكرة" ثم يحاول تجسيدها، بل يبدأ بـ"تجربة" حسية أو وجودية، ثم يحاول التعبير عنها من خلال وسيط فني. إن الإبداع الفني، من هذا المنظور، هو عملية "تجسيد للوعي". والفنان هو من يمتلك القدرة على تحويل تجربته المعيشة، بكل تعقيداتها، إلى عمل فني يمكن للآخرين أن يختبروه بدورهم. هذا الفهم يجعل الفن ليس مجرد منتج، بل هو عملية وجودية وتفاعلية، مما يعزز من قيمته المعرفية والفلسفية.

الفن المعاصر ونظرة الفينومينولوجيا إلى التجربة الفنية الحديثة:

في سياق الفلسفة الحديثة، لا يمكن فهم التجربة الفنية المعاصرة دون الغوص في أعماق الفينومينولوجيا (Phenomenology)، وهي منهج فلسفي يُركز على دراسة الوعي والظواهر كما تُقدم لنا في التجربة الذاتية المباشرة. لقد قدمت الفينومينولوجيا، من خلال روادها مثل إدموند هوسرل (Edmund Husserl)، ومارتن هايدغر (Martin Heidegger)، وموريس ميرلو-بونتي (Maurice Merleau-Ponty)، أدوات جديدة لفهم العلاقة المعقدة بين الفنان، العمل الفني، والجمهور. لم تعد التجربة الفنية تُفهم على أنها مجرد محاكاة للواقع، بل هي حوار وجودي عميق بين الجسد، الوعي، والعالم.

الفن كصراع بين الأرض والعالم:

يُقدم هايدغر مفهوماً مزدوجاً للعمل الفني كـصراع (Struggle) بين "الأرض" و"العالم".  "العالم" هو الإطار الثقافي، الاجتماعي، واللغوي الذي نعيش فيه. "الأرض" هي الجانب المادي، الغامض، والمقاوم للوجود. العمل الفني، في هذه الرؤية، يُشكل ساحة لهذا الصراع. إنه يُجسد "العالم" في شكل مادي (الأرض)، مما يُعطي "العالم" استقراره وملمسه، ولكنه في الوقت نفسه يُحافظ على غموض "الأرض" ويُظهر مقاومتها للوصف الكامل.

هذا الصراع يُفسر لماذا قد نجد بعض الأعمال الفنية مُقلقة أو غامضة. إنها تُظهر لنا أن العالم ليس مُتّسقًا أو مُتّصلاً بالكامل، بل هو مليء بالتناقضات والغموض. الفن، من خلال هذا الصراع، يُقدم لنا الحقيقة ليس كشيء ثابت، بل كشيء ديناميكي، مُتجدد، ومرتبط بوجودنا في العالم.

إن نظرة الفينومينولوجيا إلى التجربة الفنية الحديثة هي نظرة ثرية وعميقة، تُعيد تعريف علاقتنا بالفن. من خلال روادها مثل ميرلو-بونتي وهايدغر، تُركز الفينومينولوجيا على أن الفن ليس مجرد منتج عقلي، بل هو ظاهرة مُعاشة، تتشكل من خلال جسدنا، وعينا، وتفاعلنا مع العالم.


الاسمبريد إلكترونيرسالة